رئيس النظام السوري يصدر عفواً جديداً لا يأبه به السوريون

مراسيم الأسد .. عاجز يبيع الأوهام

الدمار في سوريا الذي سببه النظام

29 أيلول/سبتمبر 2024

نشر رئيس هيئة التفاوض السورية الدكتور بدر جاموس مقالاً على موقع (يني شفق) حول مراسيم العفو التي يصدرها رئيس النظام السوري بشار الأسد، أمس السبت، واصفاً إياه بالعاجز الذي يبيع الأوهام، حيث قال:
أصدر رأس النظام السوري قبل أيام مرسوماً تشريعياً يتضمن ما يسمى “عفواً عاماً” عن جرائم الفرار من الخدمة العسكرية، وبعض الجنح والمخالفات، واستثنى تلك التي تشكل “اعتداءً خطيراً على المجتمع والدولة”، (حسب توصيف النظام)، وهو يعتقد أنه بهذا العفو يستطيع أن يوهم المجتمع الدولي والدول العربية على وجه التحديد أنه فجأة أصبح نظاماً متسامحاً مع السوريين، ويستطيع أن يقنع العالم بأنه جدّي في التصالح مع شعبه.

يُعدّ الأسد من أكثر الرؤساء في العالم إصداراً لمراسيم العفو العام، فمنذ عام 2011 وحتى اليوم أصدر 24 مرسوم عفو، لكن هذه المراسيم لم تكن بمثابة مبادرة سلام وصفح عن سجناء الرأي والمعتقلين السياسيين، وإنما شملت فئات محددة من المدانين بجنح أو جرائم عادية مثل مهربي المخدرات والقتلة أو الهاربين من التجنيد.

ويعرف السوريون تماماً أن مرسوم الأسد هذا – مثل المراسيم السابقة – بلا قيمة، وأنه وهمي لا وزن له على أرض الواقع، في دولة تُهيمن فيها الأجهزة الأمنية المنفلتة على كل شيء، ويغيب فيها القضاء المستقل العادل، وهو تكرار للمراسيـم السابقـة التي لم يلتزم بها النظام السوري ولا أجهزته الأمنية، ولم تؤد إلى إطلاق سراح عشرات آلاف المعتقلين تعسفياً بسبب رأيهم أو معارضتهم للنظام أو سعيهم لسوريا حرّة كريمة، ولم تستطع أن تكشف عن مصير عشرات الآلاف أيضاً من المغيّبين قسرياً والمختفين في زنازين ومعتقلات وأقبية النظام السوري وأجهزته الأمنية.

إنه العفو رقم 24 الذي يصدره النظام السوري منذ انطلاق الثورة، ومع هذا ما زالت أسماء المعارضين والثوار والناشطين ومن شاركوا في التظاهرات السلمية والإعلاميين والحقوقيين في حواسيب فروع المخابرات المختلفة، على قوائم المطلوبين للمراجعة أو التحقيق أو المطلوبين للاعتقال، ومن تصل يد أجهزة الأمن له سيواجه مصيراً مجهولاً، فلا قضاء يحميه ولا سلطة تردع هذه الأجهزة عن العبث بمصائر البشر.

جميع مراسيم العفو السابقة لم تشمل المعتقلين السياسيين والناشطين المدنيين والكتاب والمثقفين الذين اعتقلهم النظام السوري بسبب تعاطفهم مع الثورة أو مساعداتهم الإنسانية لها، وما زال عبد العزيز الخير وفائق المير وخليل معتوق ورجاء الناصر ورانيا العباسي وعدنان الزراعي وزكي كورديلو وعشرات الآلاف غيرهم في عالم المجهول.

كما العادة، مراسيم العفو لا تصدر في سوريا عن مؤسسة أو هيئة مُنتخبة أو عن مجلس نواب، بل يُصدرها رأس النظام السوري ليدعوها “مكرمة”، كي يُظهر “تسامحه” و”سعة صدره” تجاه “المخطئين”، أولئك الذين لم يُقدّموا لهم الولاء والطاعة والرضوخ، ولم يقبلوا أن يركعوا أمام أجهزته الأمنية، ورفضوا إلا أن يعيشوا بكرامة وحرية وإباء، وطالبوا بدولة حديثة خالية من الفساد والقمع.

يُقدّم رأس النظام السوري “مكرمة” مرسوم العفو هذه، ويعتقد أنه سيُقنع السوريين بها ويُرضي المجتمع الدولي، دون أن يُغيّر النهج القمعي الذي ينتهجه منذ انطلاق الثورة قبل نحو 14 عاماً وحتى اليوم، مستمراً بشكل ممنهج بعمليات الاعتقال التعسفي والتعذيب والإخفاء القسري والتغييب في السجون خارج إطار القانون لكل من يعارضه، أو لكل من عارضه في يوم من الأيام حتى لو بكلمة، دون رقيب على هذه الممارسات العنفية المنفلتة من عقالها.

الاستثناء الذي وُضع في صدر العفو (تُستثنى تلك الجرائم التي تُشكّل اعتداءً خطيراً على المجتمع والدولة)، وهو مفهوم واسع ومطاط تستطيع الأجهزة الأمنية تفسيره على هواها دون وجود من يراقبها أو يحاسبها، وهي إشارة واضحة بأن هذا العفو لن يشمل الناشطين السياسيين والمعارضين وأصحاب الرأي أو حتى أي منشق عن الخدمة العسكرية، ولا يشمل أولئك الذين مارسوا يوماً حقهم في التجمع السلمي وحرية التعبير والرأي، أو الذين انتقدوا سياسات النظام وأبدوا رغبة في إصلاحه وتغييره، وبهذا سيبقى الجميع مطلوبين ولن ينالوا مهزلة “المكرمة” التي يتغنى بها النظام السوري.

ما زال السوريون يُعتقلون دون قرارت محكمة، ويُحرمون من الاستعانة بمحامين، ولا يحق لهم المطالبة بمحاكمات عادلة، وقد يختفون ولا يحق لأهاليهم معرفة مكان اعتقالهم أو ما هي تُهمهم، بل وينكر النظام وجودهم أصلاً، وما زالت الأجهزة الأمنية منفلتة وفوق القانون، لا ترضخ للقضاء وتضرب بعرض الحائط كل القوانين، دولة ظل عنيفة ومُظلمة يخشاها السوريون ولا يأمنونها بأي حال.

يعتقد الأسد أنه قادر على تحقيق عدة مكاسب من هذا العفو، على الصعيد السياسي والأمني، على المستوى الداخلي والخارجي، أهمها: أنه يريد تحسين صورته أمام المجتمع الدولي من خلال الإيحاء بأنه يملك جانباً إنسانياً، على أمل أن يساعده هذا في فتح باب تطبيع العلاقات والخروج من عزلته الخانقة. وكذلك يريد أن يوهم المجتمع الدولي بأن سوريا بلد آمن ولا خوف على اللاجئين من العودة إليها، وأنه يوجد نظام متسامح يستند إلى القانون في سياساته، وأخيراً هي فرصة لتكسّب الأجهزة الأمنية لتحقيق المزيد من الثروات على حساب أهالي المعتقلين عن طريق ابتزازهم بوعدهم بشمل العفو لأبنائهم مقابل مبالغ مالية.

يعلم السوريون أنفسهم عن قصص الغدر والخداع من النظام السوري الذي سمح لمدنيين بالدخول إلى بلادهم ثم تم اقتيادهم إلى أجهزة الأمن وخرجوا منها بعد أيام جثث هامدة، معظم هؤلاء الذين قضوا في سجون أجهزة الموت السورية من المدنيين وليسوا من السياسيين أو المتهمين بأية أعمال، ومع ذلك كان مصيرهم الموت.

يستمر النظام السوري بتجاهل الوضع المأساوي الذي وصلت إليه سوريا، ويتجاهل نتائج حربه البشعة التي جعلت ملايين السوريين نازحين مشردين بعيداً عن بيوتهم وأراضيهم، أو لاجئين مشتتين في أصقاع الأرض، والأهم أنه يتجاهل أن سوريا بحاجة ماسّة لحل سياسي حقيقي وليس لعفو وهمي، يعجز الأسد نفسه عن تطبيقه، ولا يستفيد منه إلا بعض المجرمين أو المخطئين بحق مجتمعهم، حل سياسي يحترم القرارات الدولية والأممية، وعلى رأسها بيان جنيف والقراران 2254 و2118، حل سياسي يضع حداً لتغوّل الأجهزة الأمنية وتحكّمها برقاب العباد، ويضمن أمن جميع السوريين وسلامتهم في دولة حرة كريمة ديمقراطية، يُحترم فيها استقلال القضاء، وتُفصل فيها السلطات الثلاث، ويستقل القضاء ويحكمها بحكم رشيد، ودون ذلك فإن كل ما يُصدره النظام السوري ليس إلا جزءاً من سياساته التي تُغرق العالم بالتفاصيل الفارغة والاستمرار بمسلسل الخداع للعالم بينما بات الشعب السوري يدرك حقيقة هذه الألاعيب الزائفة.